فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقال: بئس الرأي يفسد قومًا غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلامًا وتعطوه سيفًا صارمًا فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا. فقال الشيخ: صدق هذا الفتى هو أجودكم رأيًا. فتفرقوا على رأي أبي جهل مجمعين على قتله، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن الله له في الهجرة فأمر عليًا عليه السلام فنام في مضجعه وقال له: اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه. وباتوا مترصدين فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا عليًا فبهتوا وخيب الله سعيهم واقتصوا أثره فأبطل مكرهم. ومعنى {ليثبتوك} قال ابن عباس: ليوثقوك ويسجنوك لأنه لا يقدر على الحركة وهو إشارة إلى رأي أبي البختري. وقوله: {أو يقتلوك} إشارة إلى رأي أبي جهل. وقوله: {أو يخرجوك} أي من مكة إشارة إلى رأي هشام. وأنكر القاضي حديث إبليس في القصة وتصويره نفسه بصورة الإنس. قال: لأن ذلك التغيير إن كان بفعل الله فهو إعانة للكفار على المكر، وإن كان من فعل إبليس فلذلك لا يليق بحكمة الله تعالى لأن إقدار إبليس على تغيير صورة نفسه إعانة له على الإغواء والتلبيس. هذا ما حكى عن القاضي وذهب عليه أن هذا الاعتراض وارد على خلق إبليس نفسه وعلى خلق سائر أسباب الشرور والآثام وقد أجبنا عن أمثال ذلك مرارًا، وقد عرفت تفسير المكر في سورة آل عمران. والحاصل أنهم احتالوا في إبطال أمر محمد والله نصره وقواه فضاع فعلهم وظهر صنع الله. فإن قيل: لا خير في مكرهم فكيف قال والله أنه خير الماكرين؟ وأجيب بأن المراد أقوى الماكرين، أو المراد أنه لو قدر في مكرهم خير لكان الخير في مكره أكثر، أو المراد أنه في نفسه خير. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)}
أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والخطيب عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك} قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق- يريدون النبي صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات علي رضي الله عنه على فراش النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًا رضي الله عنه يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوه عليًا رضي الله عنه رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري...! فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي معًا في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما. أن نفرًا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، واعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم مني رأي ونصح. قالوا: أجل فادخل فدخل معهم فقال: انظروا في شأن هذا الرجل- فوالله- ليوشكن أن يواتيكم في أمركم بأمره. فقال قائل: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء: زهير ونابغة، فإنما هو كأحدهم فقال عدوّ الله الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، والله ليخرجن رائد من محبسه لأصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ثم يمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم فانظروا في غير هذا الرأي. فقال قائل: فأخرجوه من بين أظهركم فاستريحوا منه، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وأين وقع، وإذا غاب عنكم أذاه استرحتم منه فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذه القلوب بما تستمع من حديث؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب لتجتمعن إليه، ثم ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا: صدق- والله- فانظروا رأيًا غير هذا. فقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره.
قالوا: وما هذا؟ قال: تأخذوا من كل قبيلة غلامًا وسطًا شابًا مهدًا، ثم يعطى كل غلام منهم سيفًا صارمًا، ثم يضربوه به- يعني ضربة رجل واحد- فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل كلها، فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلهم، وإنهم إذا أرادوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه.
فقال الشيخ النجدي: هذا- والله- هو الرأي، القول ما قال الفتى لا أرى غيره، فتفرقوا على ذلك وهم مجتمعون له. فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة، وأذن الله له عند ذلك في الخروج وأمرهم بالهجرة وافترض عليهم القتال، فأنزل الله: {أُذن للذين يقاتلون} [الحج: 39] فكانت هاتان الآيتان أول ما نزل في الحرب، وأنزل بعد قدومه المدينة يذكره نعمته عليه {وإذ يمكر بك الذين كفروا} الآية.
وأخرج سنيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبيد بن عمير رضي الله عنه قال لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني. قال: من حدثك بهذا؟ قال: ربي. قال: نعم الرب ربك استوص به خيرًا...! قال: أنا استوصي به بل هو يستوصي بي.
وأخرج ابن جرير من طريق عبيد بن عمير رضي الله عنه عن المطلب بن أبي وداعة أنا أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر بك قومك؟ قال: يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني. قال: من حدثك بهذا؟ قال: ربي. قال: نعم الرب ربك فاستوص به خيرًا...! قال: أنا أستوصي به بل هو يستوصي بي: فنزلت: {وإذ يمكر بك الذين كفروا}.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج رضي الله عنه {وإذ يمكر بك الذين كفروا} قال: هي مكية.
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأيام، سئل عن يوم السبت فقال: «هو يوم مكر وخديعة». قالوا: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: فيه مكرت قريش في دار الندوة إذ قال الله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما {ليثبتوك} يعني ليوثقوك.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه قال: دخلوا دار الندوة يأتمرون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا يدخل عليكم أحد ليس منكم، فدخل معهم الشيطان في صورة شيخ من أهل نجد، فتشاوروا فقال أحدهم: نخرجه: فقال الشيطان: بئسما رأى هذا هو قد كاد أن يفسد فيما بينكم وهو بين أظهركم فكيف إذا أخرجتموه فأفسد الناس ثم حملهم عليكم يقاتلونكم.
قالوا: نعم ما رأى هذا...! فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فخرج هو وأبو بكر رضي الله عنه إلى غار في جبل يقال له ثور، وقام علي بن أبي طالب على فراش النبي صلى الله عليه وسلم وباتوا يحرسونه يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه فإذا هم بعلي رضي الله عنه. فقالوا: أين صاحبك؟ فقال: لا أدري...! فاقتصوا أثره حتى بلغوا الغار ثم رجعوا، ومكث فيه هو وأبو بكر رضي الله عنه ثلاث ليال.
وأخرج عبد بن حميد عن معاوية بن قرة رضي الله عنه. أن قريشًا اجتمعت في بيت وقالوا: لا يدخل معكم اليوم إلا من هو منكم، فجاء إبليس فقال له: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد وأنا ابن أختكم. فقالوا: ابن أخت القوم منهم. فقال بعضهم: أوثقوه. فقال: أيرضى بنو هاشم بذلك؟ فقال بعضهم: أخرجوه. فقال: يؤويه غيركم. فقال أبو جهل: ليجتمع من كل بني أب رجل فيقتلوه. فقال إبليس: هذا الأمر الذي قال الفتى. فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك} إلى آخر الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} قال: كفار قريش أرادوا ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من مكة.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شرى علي رضي الله عنه نفسه ولبس ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه، وكان المشركون يحسبون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت من قريش تريد أن تقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يرمقون عليًا ويرونه النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل علي رضي الله عنه يتصور فإذا هو علي رضي الله عنه، فقالوا: إنك للئيم، إنك لتتصوّر وكان صاحبك لا يتصوّرك ولقد استنكرناه منك.
وأخرج الحاكم وصححه عن علي بن الحسين رضي الله عنه وقال في ذلك:
وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى ** ومن طاف بالبيت العتيق والحجر

رسول الإِله خاف أن يمكروا به ** فنجاه ذو الطول الإِله من المكر

وبات رسول الله في الغار آمنا ** وفي حفظ من الله وفي ستر

وبت اراعيه وما يتهمونني ** وقد وطنت نفسي على القتل والأسر

. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {لِيُثُبِتُوكَ} متعلِّقٌ بـ {يَمْكُرُ} والتثبيتُ هنا الضَّربُ، حتَّى لا يبقى للمضروب حركة؛ قال: [البسيط]
فَقلتُ: ويْحَكَ ماذا فِي صَحيفتكُمْ؟ ** قالوا: الخَليفَةُ أمْسَى مُثْبَتًا وجِعَا

وقرأ ابن وثَّابٍ {لِيُثِّبتُوكَ} فعدَّاهُ بالتضعيف، وقرأ النخعي {لِيبيتُوك} من البيات والمعنى:
قال ابنُ عبَّاسٍ: ليوثقوك ومن شد فقد أثبت؛ لأنَّهُ لا يقدر على الحركة، ولهذا يقال لمن اشتدَّتْ به علة أو جراحة تمنعه من الحركة قد أثْبِتَ فلانٌ، فهو مُثْبَتٌ.
وقيل: ليسجنوك، وقيل: ليثبتوك في بيتٍ، أو يقتلوك، وهو ما حكي من أبي جهل {أو يُخْرِجُوكَ} من مكَّة كما تقدم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)}
ذكره عظيم مِنَّتِه عليه حيث خَلَّصَه من أعدائه حين خرج من مكة مهاجرًا إلى المدينة، وهمَّوا بقتله، وحاولوا أن يمكروا به في السِّر، فأعلمه الله ذلك.
والمكرُ إظهارُ الإحسانِ مع قَصْدِ الإساءةِ في السِّر، والمكرُ من الله الجزاءُ على المكر، ويكون المكرُ بهم أَنْ يُلْقِيَ في قلوبهم أنه مُحْسِنٌ إليهم ثم- في التحقيق- يُعذِّبهم، وإذا شَغَلَ قومًا بالدنيا صَرَفَ همومَهم إليها حتى يَنْسَوْا أمر الآخرة، وذلك مكرٌ بهم، إذ يُوظِّنُون نفوسهم عليها، فيتيح لهم من مأمنهِم سوءًا، ويأخذهم بغتةً.
ومن جملة مكره اغترارُ قومٍ بما يرزقهم من الصيت الجميل بين الناس، وإجراءِ كثير من الطعات عليهم، فأسرارهم تكون بالأغيار منوطةً، وهم عن الله غافلون، وعند الناس أنهم مُكْرَمُون، وفي معناه قيل:
وقد حسدوني في قرب داري منكم ** وكم من قريب الدار وهو بعيد

. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: إن شر من دب في الوجود هم {الصم} عن استماع كلام الحق. يسمع القلب والقبول {إليكم} عن كلام الحق والكلام مع الحق. والأصم لابد أن يكون أبكم فلذلك خصا بالذكر {الذين لا يعقلون} أنهم لماذا خلقوا فلا جرم يؤل حالهم من أن يكونوا خير البرية إلى أن يكونوا شرّ الدواب {استجيبوا لله} إنه تعالى يطلب بالمحجة من العبد الإجابة كما يطلب العبد للحاجة منه الإجابة، فالاستجابة لله إجابة الأرواح للشهود وإجابة القلوب للشواهد، وإجابة الأسرار للمشاهدة، وإجابة الخفي للفناء في الله، والاستجابة للرسول بالمتابعة لما يحييكم يفنيكم عنكم ويبقكيم به {واعلموا أن الله يحول} بسطوات أنوار جماله وجلاله بين مرآة قلبه وظلمة أوصاف قالبه {وإنه إليه تحشرون} بالفناء عنكم والبقاء به {واتقوا} أيها الواصلون فتنة ابتلاء النفوس بحظوظها الدنيوية والأخروية.